الأونروا- من وكالة توطين للاجئين إلى شاهد على النكبة الفلسطينية

في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 1949، أُنشئت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بهدف سياسي واضح المعالم. جاء ذلك عقب تفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة للجنة برئاسة الأميركي غوردن كلاب، والتي عُرفت باسم "لجنة الاستقصاء الاقتصادي في الشرق الأوسط". كان هدف اللجنة، التي شُكلت في منتصف عام 1949، دراسة الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في منطقة الشرق الأوسط وتقديم المشورة والإرشاد بشأن "برنامج التنمية المناسب لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين".
في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1949، قدمت اللجنة تقريرها الشامل إلى الجمعية العامة. وأوصت اللجنة بإنشاء صندوق لـ"دمج اللاجئين" ضمن وكالة الأونروا، التي كانت الجمعية العامة على وشك الإعلان الرسمي عن تأسيسها. خُصص للصندوق ميزانية قدرها 49 مليون دولار، على أن تساهم الولايات المتحدة الأميركية بنسبة 70% منها، وذلك لإقامة مشاريع تنموية في غضون فترة لا تتجاوز 18 شهرًا، تحت شعار طموح: "عمل أكثر وغوث أقل".
اقرأ أيضا
list of 2 itemsبالصور.. رحلة مساعدات غزة من الإعداد إلى الإسقاط الجوي وما بعده
الأونروا تحذر من نقص حاد في حفاضات الأطفال بغزة
التمهيد لإنشاء الأونروا
بموجب القرار رقم 212 الصادر في التاسع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1948، قامت الأمم المتحدة بتأسيس "هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين". كان الهدف من هذه الهيئة تقديم العون والمساعدة للاجئين الفلسطينيين، الذين قُدِّر عددهم آنذاك بحوالي 935 ألف لاجئ. بالإضافة إلى ذلك، كان من مهام الهيئة تنسيق الخدمات التي تقدمها المنظمات غير الحكومية وبعض منظمات الأمم المتحدة الأخرى، مثل اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية والمنظمة العالمية للاجئين.
بعد أسبوعين فقط من إنشاء "هيئة الأمم المتحدة"، صدر القرار رقم 194 عن الجمعية العامة بتاريخ الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1948، والذي أكد بشكل قاطع على حق العودة والتعويض واستعادة الممتلكات للاجئين الفلسطينيين.
انبثقت عن هذا القرار لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين (UNCCP)، التي ضمت في عضويتها كلًا من تركيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية. كُلفت هذه اللجنة بمهمة حصر دقيق لأعداد اللاجئين الفلسطينيين، ووضع آليات عملية لتطبيق حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وأراضيهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وذلك لمن يرغب في العودة.
وبعد مرور عام كامل، قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإنشاء وكالة الأونروا بموجب القرار رقم 302 الصادر في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 1949. أُنشئت الوكالة بوصفها وكالة مؤقتة لمدة عام واحد، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بتطبيق القرار رقم 194. فالقرار رقم 302، وخاصة الفقرتين الخامسة والعشرون منه، يشير بوضوح إلى أن عمل وكالة الأونروا يجب ألا يتعارض أو يخلّ بأي شكل من الأشكال بتطبيق القرار رقم 194.
استيعاب اللاجئين في دول عربية
كانت هناك أربع دول عربية تعتبر مهيأة سياسيًا لاستقبال ودمج اللاجئين الفلسطينيين، وهي: مصر ولبنان وسوريا والأردن. هذه الدول، بالتحديد، كانت قد وقّعت على اتفاقيات هدنة مع الكيان الإسرائيلي المحتل خلال الفترة الممتدة بين شهري فبراير/شباط ويوليو/تموز من العام 1949. كان الهدف الضمني هو توطين اللاجئين الفلسطينيين في تلك الدول، والتخلي عن حق العودة لمن لا يرغب بالعودة إلى دياره، مما أوجد مناخًا سياسيًا ملائمًا للبدء في عملية التوطين دون اعتراض من الدول المضيفة، واستغلال الوضع الإنساني المتردي للاجئين. إلا أن اللاجئين أنفسهم، بوعيهم وإدراكهم لما كان يُحاك ضدهم، أفشلوا هذا المشروع.
إن الخدمات الإنسانية التي قدمتها الأونروا عند انطلاق أعمالها بشكل رسمي في الأول من مايو/أيار عام 1950، ووفقًا لقرار التأسيس رقم 302، لم تكن إلا وسيلة للإسهام في تعزيز برامج التنمية بهدف تسهيل عملية الاستيعاب والدمج في الدول الأربع المذكورة.
في الوقت الذي جرى فيه تجميد دور "لجنة التوفيق الدولية" منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن، وتعطيل فعلي لأي محاولات جادة لإيجاد آليات لتطبيق حق العودة أو توفير الحماية اللازمة للاجئين الفلسطينيين بمعناها الشامل: القانوني والإنساني والجسدي، واصلت وكالة الأونروا تقديم خدماتها المتنوعة. وقد حققت بذلك ثلاثة أهداف رئيسية: الهدف الأول هو هدف إنساني يتمثل في تقديم المساعدات الضرورية، والهدف الثاني هو هدف سياسي يتمثل في إبراز قضية اللاجئين وإبقاء الوكالة كشاهد حي على مأساة اللجوء والتشرد إلى حين تحقيق العودة المنشودة، والهدف الثالث هو هدف قانوني يتمثل في الحفاظ على مسمى لاجئ وفقًا للأمم المتحدة والمطالبة بالحقوق المشروعة، وعلى رأسها حق العودة.
وعلى الرغم من مرور ما يزيد على 75 عامًا على إنشائها، لا تزال وكالة الأونروا تحمل صفة "وكالة مؤقتة"، حيث يتم تجديد ولايتها وتفويضها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة كل ثلاث سنوات. وكان آخر تجديد لولايتها حتى شهر يونيو/حزيران من عام 2026.
الأمم المتحدة تؤكد على دور الأونروا
تم التأكيد في مناسبات عديدة على الهدف الأساسي الذي أُنشئت من أجله الوكالة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وبتاريخ الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1950، صدر القرار رقم 393، وبموجبه أسندت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الأونروا مهمة العمل بجد على دمج اللاجئين الفلسطينيين في اقتصاديات المنطقة، جنبًا إلى جنب مع تقديم الخدمات الإغاثية الضرورية لهم.
وفي العام 1959، قدم الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، داغ همرشولد، ورقة عمل إلى الجمعية العامة تتضمن مقترحًا يهدف إلى توسيع برامج تأهيل اللاجئين وتعزيز قدراتهم على إعالة أنفسهم، و"الاستغناء تدريجيًا عن المساعدات التي تقدمها إليهم وكالة الأونروا وتوطينهم في الأماكن التي يتواجدون فيها، مع مناشدة الدول العربية المضيفة للاجئين التعاون الكامل مع الوكالة الدولية لتحقيق هذه الغاية".
وتماشيًا مع الهدف الرئيس الذي أُنشئت الوكالة من أجله، وهو دمج اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة لمن لا يرغب بالعودة إلى دياره، فإنه لا يثير الدهشة أن الكيان الإسرائيلي كان من بين المساهمين ماليًا في صندوق وكالة الأونروا حتى سنة 1995.
ففي عام 1991، بلغت مساهمات الاحتلال الإسرائيلي 68.900 دولار أميركي، وفي عام 1992 بلغت 112.141 دولارًا أميركيًا. ومع توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993، وصلت مساهمات الاحتلال ذروتها لتبلغ 1.422.079 دولارًا أميركيًا، وذلك لتنفيذ برامج بالتنسيق الكامل مع الدول المضيفة، يكون هدفها الأساسي دمج اللاجئ الفلسطيني في أماكن تواجده، تماشيًا مع المرحلة السياسية الجديدة والاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، والتخلص الفعلي من حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم.
فشل الإطاحة بالأونروا
لحسن الحظ، فشل اتفاق أوسلو و"ملحقاته" المشؤومة في الإطاحة بوكالة "الأونروا" وبقضية اللاجئين وحق العودة المقدس، سواء على مستوى نقل الخدمات إلى وكالة أخرى عربية أو إسلامية، أو بتحويل الخدمات مباشرة إلى الدول المضيفة، أو إلى أي منظمة أممية أخرى. بل إن التجديد الأخير لعمل الوكالة في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023 لمدة ثلاث سنوات قادمة حظي بموافقة ودعم واسع النطاق من قبل 165 دولة.
وبناءً على ذلك، بات استمرار عمل الوكالة يشكل عنصر قلق وإزعاج حقيقيين للاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأميركية وحلفائهما الاستراتيجيين، الذين يسعون جاهدين للتخلص منها بأي وسيلة ممكنة، وأصبحت الوكالة بمثابة الشوكة الحادة في حلق الاحتلال.
إن المنهجية الحالية التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي، والتي تتضمن محاولات التشويه والتضليل والترويج للاتهامات الباطلة ضد الوكالة على مستوى عملها في الأراضي الفلسطينية المحتلة في قطاع غزة والضفة الغربية، ما هي إلا دليل قاطع على ذلك.
فالوكالة تُعتبر الشاهد الحي على الجريمة النكراء التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي باغتصاب أرض فلسطين وطرد وتشريد أهلها الأصليين. كما أنها تُديم صفة اللاجئ لما يقارب 6 ملايين لاجئ فلسطيني، وذلك بحسب قواعد الأمم المتحدة التي تعتبر أن كل من ترك بيته في عام 1948 في فلسطين هو لاجئ، وجميع ذريته أيضًا لاجئون. بالإضافة إلى ذلك، تغذي الوكالة روح اللاجئين وتمسكهم الراسخ بحقهم المقدس في العودة إلى ديارهم، وتمتلك الملايين من الوثائق والسجلات والأرشيف الرقمي الذي يوثق حياة وسجلات اللاجئين. وتعبر الوكالة عن مسؤولية الأمم المتحدة السياسية تجاه اللاجئين الفلسطينيين حصرًا، بعد أن اعترف المجتمع الدولي بالشرعية الزائفة للكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين وفقًا للقرار رقم 181 الصادر بتاريخ التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947.
لذلك، يسعى الاحتلال وحلفاؤه لإنهاء خدمات الوكالة أو تفكيكها وبعثرة برامجها الإنسانية. وقد صرحت سفيرة أميركا في الأمم المتحدة، أليس ستيفانيك، بوضوح أن "إدارة الرئيس الأميركي السابق ترامب لن تكتفي بقطع التمويل عن الأونروا، ولكنها ستعمل بكل ما أوتيت من قوة على تفكيك الوكالة بالكامل"، واتهمت الوكالة زورًا وبهتانًا بأنها "منظمة إرهابية" موالية لحركة "حماس".
مبادرات تفشل في شطب الأونروا
من بين "المبادرات" العديدة التي دعت بشكل صريح إلى إنهاء عمل وكالة الأونروا، كانت هناك مبادرة التوقيع على وثيقة جنيف البحر الميت في الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 2003، والتي تهدف إلى "حل القضية الفلسطينية". وُصفت هذه الوثيقة بأنها "أخطر المؤامرات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها"، إلا أنها لاقت دعمًا وتأييدًا دوليين واسعين النطاق. فقد جرى التوقيع عليها بحضور الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، ورئيس الاتحاد الأوروبي، والمنسق الأعلى الأسبق للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، والممثل الخاص لرئيس وزراء بريطانيا لورد ليفي، وعدد كبير من وزراء الخارجية الأوروبيين.
فيما يتعلق بوكالة الأونروا، فقد دعت الوثيقة، التي وقعها عن الجانب الفلسطيني وزير الإعلام آنذاك ياسر عبد ربه، وعن الجانب الإسرائيلي وزير العدل يوسي بيلين، إلى "تشكيل لجنة دولية خاصة تكون مهمتها الأساسية إنهاء عمل الوكالة، وتتكون من الولايات المتحدة الأميركية والأونروا والدول العربية المضيفة والاتحاد الأوروبي وسويسرا وكندا والنرويج واليابان والبنك الدولي وروسيا وغيرها من الدول والمنظمات المهتمة". وجاء في الوثيقة أيضًا: "على الوكالة أن تتوقف عن الوجود بعد مرور خمس سنوات على بداية عمل اللجنة. وتقوم اللجنة بعرض جدول زمني مفصل لنهاية نشاط الوكالة ونقل وظائفها تدريجيًا إلى الدول المضيفة".
وعي اللاجئين يُفشل مشاريع التوطين
بفضل وعيهم العميق لما يُحاك ضدهم من مؤامرات خبيثة، استطاع اللاجئون الفلسطينيون أن يُفشلوا المهمة الرئيسية التي رسمتها الأمم المتحدة للوكالة خلال عام واحد فقط. مع العلم أن الأمم المتحدة كانت قد شكلت لهذه الغاية لجنة استشارية خاصة للأونروا، تتكون من خمس دول: الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وتركيا وأيرلندا الشمالية. ثم عادت وانضمت إلى هذه اللجنة كل من مصر والأردن وسوريا في نفس سنة التأسيس.
وبعد مرور ما يزيد على 75 عامًا على تأسيس الوكالة، استطاع اللاجئون، خلال هذه الفترة الطويلة، تحويل وكالة الأونروا من مجرد مؤسسة أممية تهدف بالأساس إلى توطين اللاجئين بعد عام واحد فقط من تأسيسها، وذلك لمن لا يرغب بالعودة إلى دياره، إلى تحويلها من محنة عظيمة إلى منحة قيّمة، وذلك من خلال تكريس دورها الحيوي كي تكون شاهدًا حيًا على جريمة نكبة فلسطين، بحيث يرتبط وينتهي دورها بشكل قاطع بتحقيق العودة الكاملة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم.
إن اعتراف الأمم المتحدة بدولة الاحتلال الإسرائيلي وفقًا للقرار الأممي غير القانوني رقم 181 الصادر بتاريخ التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947، والتسبب في تهجير ما يقارب 935 ألف فلسطيني تحولوا قسرًا إلى لاجئين، قد أدى إلى تزايد أعدادهم ليصل في العام 2025 إلى ما يزيد عن 8 ملايين لاجئ منتشرين في مختلف دول العالم، والذين يمثلون ما يقارب ثلثي الشعب الفلسطيني بأكمله. وبعد الفشل الذريع لمشروع الأمم المتحدة لتوطين اللاجئين من خلال الوكالة، أصبحت الأونروا، من خلال التصويت الدوري على استمرار عملها كل ثلاث سنوات، بمثابة التزام دولي قاطع من قبل الأمم المتحدة على كافة المستويات السياسية والإنسانية والقانونية.